اشتد السعي نحو الابتكار في السنوات الأخيرة، وتوجهت العديد من الدول إلى الاهتمام بأنشطة الابتكار ودعمها على نطاق واسع، ولعل الأمر يشابه الزخم الذي كان من نصيب التميز المؤسسي في فترة سابقة. وقد تجلى ذلك بتوجه الكثير من خبراء وممارسي التميز المؤسسي نحو الابتكار وتطبيقاته. يستوجب هذا السلوك التوقف عنده، ويفرض النظر بعين فاحصة إلى شكل العلاقة ما بين التميز والابتكار، وتحديد اين يقتربان من بعضهما البضع، وأين يبتعدان ويفترقان، وهل فعلاً يجب أن يفضي الإلمام بمفاهيم التميز إلى الاهتمام بعلوم الابتكار؟
مقاربة تعاريف الابتكار والتميز
هناك العديد من التعريفات للابتكار، منها تحويل فكرة إلى حل عملي يضيف قيمة من وجهة نظر المتعاملين، أو تقديم منتجات أو خدمات جديدة تضيف قيمة إلى المؤسسة، والبعض يعرف الابتكار بالتفرقة بينه وبين الإبداع، فالإبداع يكون بالتفكير بشيء جديد بينما الابتكار هو تطبيق شيء جديد. هذا ولا يزال البعض كستيفان لينديغارد يدعو إلى عدم وضع تعريف محدد للابتكار لتجنب تقييد هذا المفهوم واستخدامه بشكل محدود.
وبالمقارنة مع التميز المؤسسي الذي يعرف حسب المنظمة الأوروبية لإدارة الجودة بأنه تحقيق الجهة لنتائج باهرة بشكل مستدام ويلبي أو يفوق توقعات أصحاب العلاقة، أو كما يعرّف برنامج مالكوم بالدريج الأداء المتميز بأنه نظام متكامل لإدارة الأداء المؤسسي يحقق قيمة للمتعاملين وأصحاب المصلحة، كما يحقق الاستدامة ويحسّن الفعالية المؤسسية وقدرات التعلم. وتذهب الجمعية الأمريكية للجودة إلى أن التميز المؤسسي يكون بإنشاء إطار داخلي مكوّن من معايير وعمليات بغرض إشراك وتحفيز الموظفين لتقديم المنتجات والخدمات التي تفي بمتطلبات العملاء.
ولو قارنا بين مجموعتي التعاريف، نلاحظ الفارق واضح لجهة أن الابتكار يشترط تطبيق أفكار جديدة أو الإتيان بحلول أصيلة بينما التميز المؤسسي سمته الأساسية الاستدامة بالتركيز على السبب والأثر، ولكن هذا لا يمنع تلاقي كلا المفهومين في تحقيق قيمة لأصحاب العلاقة تلبي احتياجاتهم.
المفارقة عند الحديث عن النوع
نستطيع أن نميّز بين عدة أنواع من الابتكار، لا بل بين عدة تصنيفات كل تصنيف يفرز لنا عدة أنواع فمثلاً قام لاري كيلي وزملائه بتحديد عدة أنواع في كتابهم “عشرة أنواع للابتكار” تندرج في ثلاثة مجموعات الأولى مرتبطة بالترتيب الداخلي للعمل ضمن المؤسسة، والثانية بالسلع والخدمات، والثالثة مخصصة لتجربة المتعاملين. هذا ونستطيع تمييز أنواع أخرى عديدة من الابتكار مثل:
الابتكار الجذري والابتكار المزعزع: حيث يكون الابتكار الجذري بإيجاد معرفة جديدة كلياً ونقل مفهوم معين من مرحلة الأبحاث إلى مرحلة التطبيق العملي الواسع أو التجاري، بينما الابتكار المزعزع يكون بنجاح بعض المنتجات الجديدة في الاستحواذ عل نسبة كبيرة من الحصة السوقية، أو قيام مؤسسات صغيرة بخلق أسواق جديدة كلياً وتحويل المستهلكين إليها.
الابتكار الجذري والابتكار التدريجي: وعوضاً عن المقارنة مع الابتكار المزعزع يتم تحديد نوع الابتكار ما بين ابتكار جذري كما أسلفنا وابتكار تدريجي بمعنى تحسينات بسيطة متتابعة أشبه بما يعرف بأنشطة التحسين المستمر.
الابتكار الوظيفي: ينظر إلى التحدي أو المشكلة التي تواجه المؤسسة على أساس أنها مجموعة من الأجزاء والوظائف، ويهتم بالعمليات المرتبطة بكل منها.
الابتكار التصميمي: يركز هذا النوع من الابتكار بالإضافة إلى الوظائف المطلوب تنفيذها، على الأبعاد الاجتماعية والعاطفية.
ابتكار العمليات: والذي يعنى بإيجاد طرق جديدة أو تطوير الطرق الحالية المستخدمة في توصيل مخرجات العمليات، ويمكن لهذا النوع من الابتكار أن يكون في أي من أجزاء سلسلة التزويد.
ابتكار المنتجات: ويتطلب مجموعة متكاملة من الأنشطة في أقسام مختلفة داخل المؤسسة.
ابتكار الخدمات: ويستهدف إبهار المتعاملين والحفاظ على ولائهم وكذلك زيادة الأرباح ورفع الكفاءة.
ابتكار نموذج الأعمال: ويكون بتغيير الطرق التي تتبعها المؤسسات لخلق وتوصيل القيمة إلى المتعاملين، وكذلك تحويل هذه القيمة إلى فائد ملموسة للمؤسسة.
الابتكار المشترك: والذي يتم بالاستفادة من خبرات خارجية لتقديم خدمات ومنتجات مبتكرة، وغالباً ما يكون بأحد طريقين، إما بالتعاون مع المتعاملين، أو مع مؤسسات أخرى شريكة.
ويحرّضنا دافع المقارنة هنا إلى التساؤل عن أنواع التميز المؤسسي، وربما التساؤل الأصح هل هناك أنواع للتميز المؤسسي؟ الواضح أن التفريق بين أنواع للتميز ليس بالاتجاه السائد أو حتى واضح المعالم بين مفكري وخبراء التميز. ولو نظرنا بدقة باحثين عن التشابه سنجد في أحشاء التميز المؤسسي ما يعرف بالتحسين المستمر والذي يقارب أحد أنواع الابتكار، أما غير ذلك فلن نجد سوى الاختلاف عند حديثنا عن الأنواع.
تباين المهارات والقدرات المطلوبة في الأفراد
تطرقت في مقال سابق إلى المهارات المطلوبة في مقيمي جوائز التميز، وهنا أضيف المهارات المطلوبة في مهنيي الابتكار، وتختلف تلك المهارات باختلاف نوع الابتكار المطبق، ولكن بشكل عام فإن مهارات حل المشكلات ومهارات التفكير التصميمي تعتبر أساسية لدى ممارسي الابتكار، وبالإضافة إليها يمكن تحديد المهارات والقدرات التالية:
الربط بين الأسئلة والمواضيع المختلفة.
طرح الأسئلة بشكل مستمر وتحدي الأوضاع الحالية.
ملاحظة سلوك الآخرين بدقة وطريقة تفاعلهم مع محيطهم.
تنفيذ الاختبارات والتصاميم التجريبية.
الحصول على أفكار وتصورات جديدة من خلال التواصل مع الأفراد ذوي وجهات النظر المختلفة.
كذلك هناك مجموعة أخرى من المهارات المطلوبة في المشرفين ومدراء الابتكار مثل القدرة على التنبؤ وفهم التغيرات المستقبلية، ورسم خارطة طريق للتعامل مع تلك التغيرات يمكن مشاركتها مع أعضاء الفريق، كما وتحديد الممارسات والمعارف المطلوبة لتزويد الموظفين أو المؤسسة بالقدرات الابتكارية الأساسية، والعمل على إدارة تلك العناصر بطريقة فعّالة.
ولتحري الدقّة في عملية المقارنة، لا بد من ذكر وجود خلط ما بين المهارات المطلوبة في مقيمي جوائز التميز والخبرات المطلوبة في خبراء التميز والمختصين، فالعدد الكبير من الجوائز قد ساهم في أن تطغى مهارات التقييم وتسود، فخبير التميز يجب أن يتملك الفهم والإدراك العميق للمفاهيم والمعايير، وكذلك أن يمتلك القدرة على تحويل هذه المعايير إلى نماذج عمل وممارسات تطبيقية تحقق للمؤسسة الغاية المنشودة، ولا يكتفي بكيفية كتابة الوثائق، أو إعداد المشاركات، أو مطابقة مساطر التقييم. وربما يحسب لهذه المقارنة – موضوع هذا المقال – إبراز الحاجة إلى وضع مهارات وقدرات واضحة مطلوبة في خبراء وممارسي التميز، وتفريقها بعض الشيء عن أعمال تقييم التميز المؤسسي.
أما لجهة معايير الموظف المتميز أسوةً بالموظف المبتكر، فهي محصورة بمعايير الفئات الفردية في جوائز التميز، وتلك المعايير تختلف من جائزة إلى أخرى، ومن فئة إلى أخرى، ولكن بشكل عام يمكن تلخيصها بالتالي:
القيادة، والإدارة والإشراف
الأداء والإنجاز
القدرة على التعلم والتطوير الوظيفي والشخصي
المبادرة والإبداع والابتكار
التواصل والعمل الجماعي
ويمكن الملاحظة بشكل جلي هنا أن أحد متطلبات التميز على الصعيد الشخصي أن يكون الموظف مبتكراً ومبدعأً، وهذا دليل على أن عباءة التميز الشخصي أوسع من سمة الابتكار.
خصوصية المقارنة المعيارية
من المعروف للملمين بممارسات التميز المؤسسي أن المقارنات المعيارية هي أحد أنشطة الوصول إلى التميز، وقد يكون هذا على صعيد الأعمال التي تقوم بها المؤسسة أو على صعيد النتائج، وغالباً الهدف من المقارنات المعيارية هو الإطلاع على أفضل الممارسات في مجال معين، والاستلهام لتحسين الأداء اعتماداً على نتائج عملية المقارنة. أما فيما يتعلق بالابتكار فليست المقارنات المعيارية محل اهتمام مماثل، بل يكون التركيز على القيام بالعمل بطريقة جديدة قادرة على إضافة قيمة. والفكرة تكمن في أن الجديد والأصيل لا يأتي من التشبه والتقليد، وتجدر الإشارة هنا إلى أن العديد من خبراء الابتكار لا يجدون للمقارنات المعيارية مكاناً في عملهم، ولا يميلون إلى الركون إليها بشكل عام. ونحن نقول إذا ما أردنا الإبقاء على المقارنات المعيارية ضمن قاموس الابتكار، فلا يسعنا إلى منحها حيزاً ضيقاً لا يتعدى الإطلاع على ما يقوم به الأخرون أو ما يسعون إلى تحقيقه لغرض المعرفة والأخذ بالاعتبار عند تطوير حلول جديدة مبتكرة.
جوائز التميز وجوائز الابتكار
إن أكثر التشابه بين التميز والابتكار مرده إلى الجوائز التي تتشابه في كثير من المواضع، فلو نظرنا إلى جوائز التميز الشائعة في المنطقة وما تعتمده من معايير فنراها لا تشذ عن مجموعة من الممكنات أو القدرات المفضية إلى نتائج تتماهى مع ما تطمح المؤسسة إلى تحقيقه. وكذلك الأمر بالنسبة إلى جوائز الابتكار على الرغم من قلة عددها في الوقت الحاضر، فلو اتخذنا جائزة الامارات للابتكار أنموذجاً وهي التي تم إطلاقها منذ عامين، نرى أنها أيضاً تعتمد مجموعة من ممكنات الابتكار تندرج تحت قدرات ومسوقات، وكذلك تتضمن مجموعة من النتائج تحدد مستوى الابتكار في المؤسسة وترتبط بالمتعاملين، نتائج الأعمال، والمجتمع والاستدامة. ولو ألقينا نظرة إلى مسطرة التقييم نرى أنها قريبة بما يكفي سواء تلك الخاصة بالممكنات أم تلك الخاصة بالنتائج. لعل هذا التشابه في جانب الجوائز هو من الأسباب الرئيسية التي شجّعت مقيمي التميز أكثر من غيرهم إلى التوجه سريعاً إلى مجال تقييم الابتكار، وإبداء الاهتمام به على عجالة.
لنماذج التميز والابتكار قصة أخرى
علينا التروي قليلاً عندما نقارن بين نماذج التميز ونماذج الابتكار، وهنا أقول النماذج وليس الجوائز، ومن المعلوم أن هناك فرقاً واضحاً بين نماذج التميز المؤسسي ومعايير بعض الجوائز فالجوائز هي أكثر مرونة وقابلية للتغيير والتحديث بما يناسب مع توجهات الجهات أصحاب المصلحة، وليس بالضرورة أن تكون مرتبطة بشكل مباشر بمفاهيم بحثية أو نظريات، كما يمكن أن تكون معايير الجوائز هجينة أي تحتوي بعضاً من أدبيات التميز وبعضاً من أساسيات الابتكار كما هو الحال في معايير جوائز الجيل الرابع للتميز الحكومي في دولة الإمارات العربية المتحدة.
إن نماذج الابتكار هي أكثر غنى وتنوع من نماذج التميز لا سيما من حيث الكم فهناك عشرات النماذج التي يمكن الاستشهاد بها ومرد هذا التنوع يعود في أغلبه إلى تعدد أنواع الابتكار والذي انعكس نماذجاً مختلفة.
ولو أثرنا التساؤل حول قابلية نماذج التميز المؤسسي للتطبيق عندما تريد المؤسسة بناء ثقافة وقدرات الابتكار، نرى أنها غير قابلة للاستخدام بشكل مباشر، وإنما بطريقة غير مباشرة وبالاعتماد على بعض المعايير الفرعية فقط حيث وجدت دراسة تم إجراءها في أوروبا صلاحية 8 معايير فرعية في نموذج التميز الأوروبي لمساعدة المؤسسة على بناء استراتيجية وخطة للابتكار وذلك بالاستعانة بمخطط السبب والأثر، وكذلك منهجية PDSA وبتطبيقها أكثر من مرة. وفي بحث حديث تم عرض نتائجه العام الماضي في الدورة الخمسين لمؤتمر هاواي لأنظمة العلوم، تبيّن أن تطبيق نموذج التميز الأسترالي يساعد المؤسسات على حسن إدارة المعرفة التي تفضي إلى الحصول على المزيد من سجلات الملكية الفكرية والتي بدورها تزيد من قدرة المؤسسة على الابتكار، كذلك وجدت هذه الدارسة أن تطبيق نماذج التميز المؤسسي تشجّع على التحسين المستمر وتساعد المؤسسة على تحقيق ابتكارات بسيطة تستقر تحت الابتكار التدريجي كأحد أنواع الابتكار كما أسلفنا سابقاً.
من نافلة القول، أن كل من التميز والابتكار يتشابهان في جوانب قليلة، إلى أنهما يختلفان في الغالب. وهناك ما يكفي من المسوّغات لتوجه ممارسي التميز المؤسسي نحو أنشطة الابتكار، ولكن يجب التركيز على أن هذا الانتقال – أو النمو – يتطلب ارتداء قبعة مختلفة، والعمل على تحييد شخصية التميز المؤسسي عند بناء شخصية الابتكار، هذا إذا ما أردنا اكتساب مهارات أصيلة، وقدرة على الثبات والاستمرارية.
د.راسل قاسم